مقالة بعنوان
محرمات قبطية: عائلات منكسرة
بقلم: دونا رزق
ترجمة: كيرلس نشأت غطاس
++++++++++++++++++++++++++
نبذة عن الكاتبة
دونا رزق هى دارسة و باحثة فى علم اللاهوت لمدة 10 سنوات. حصلت دونا على شهادة البكالريوس من جامعة هاواى فى اللغة الإنجليزية و التعليم كما حصلت على درجة الماجستير(MTS) فى الدراسات اللاهوتية من معهد الصليب المقدس الأرثوذكسى اللاهوتى فى بوسطن, ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية (2006-2008) تحت رعاية صاحب الغبطة و القداسة الأنبا سرابيون أسقف جنوب كاليفورنيا ثم درست فى إتحاد الخريجين اللاهوتى (GTU) فى بيركلى عن الطقوس الليتورجية فى 2008 ثم إنتقلت لفيينا بالنمسا لتدرس الألمانية حتى يتسنى لها دراسة المزيد عن الليتورجيات الشرقية فى 2009 ثم إنتقلت لأكسفورد بإنجلترا و أكملت الماجستير الثانى لها فى الدراسات المسيحية الشرقية مع الإهتمام باللغات الأرمينية و اليونانية و كذلك التاريخ الأرمينى و التاريخ اليونانى (2010-2012). و قد كانت أطروحة رسالة الماجستير الخاصة بها تركز على كتابات آباء الإسكندرية الأوليين (إكليمنضس, أوريجانوس, أثناسيوس, كيرلس). حالياً, تستعد دونا للإنتهاء من درجة الدكتوراة فى علم اللاهوت فى كينجز كوليدج (كلية الملك) فى لندن. ويهتم بحثها باللاهوت و التاريخ الأرمينى و كذلك دور المرأة فى الكنيسة و الدراسات الليتورجية الشرقية و كذلك آباء الكنيسة. ستبدأ دونا فى تدريس دورة دراسية عن آباء الكنيسة فى سبتمبر 2015 فى كلية القديس كيرلس الأرثوذكسية على الإنترنت(http://stcyrilsociety.org) وتعتبر دونا أن شغفها الرئيسى ينصب على القراءة و الكتابة و التواصل مع الآخرين من خلال دراساتها و خدمتها فى الكنيسة القبطية.
++++++++++++++++++++
(For the original English translation click here)
هذه المقالة مهداة لذوى العائلات المنكسرة, هولاء من يسعون للحصول على الأمان و التفهم كى ينعموا بالسلام و الطمأنينة فى بيوتهم.
هذه المقالة هى أكثر مقالة شخصية كتبتها أو قد أكتبها على الإطلاق و لكنى أشعر بأنه قد حان الوقت لكى نتكلم فيما يتجنب الأقباط الحديث بشأنه (مثلهم فى ذلك مثل العديد من الثقافات الأخرى) ألا و هو: العائلات المنكسرة.
هذه المقالة هى نتاج لخبراتى الشخصية و وجهة نظرى حيث إننى آتية من عدة خلفيات ممتزجة و رأيت العديد من العائلات المنكسرة يختبئون خلف ما يبدو صورة لعائلة سعيدة.
“والداها مطلقان ؟!” لقد كانوا يتسائلون. “لا, لا, لا يمكن أن نتقبلها و لا يمكن أن نتقبل عائلتها؛ من الممكن أن تنقلب مثلهم يوما من الأيام”.
لقد سمعت مثل هذه العبارات و المفاهيم فى العديد من المناسبات من عائلات (غالباً ما تكون عائلات شرقية) الذين يعتقدون أن أبناء الآباء المطّلقين هم كائنات غير صالحة للعلاقات, وإنهم ليسوا على دراية بالمعنى الحقيقى للعائلة, و إنهم غير قادرين على الإحتفاظ بعائلتهم لإنهم أكثر عرضة للطلاق مثلهم فى ذلك مثل آبائهم. إنهم يحكمون على الأبناء بسبب قرارات آبائهم كما لو كان الأبناء لديهم الخيار عندما إتخذ الأب و الأم قرار الزواج أو كذلك عندما قرروا الطلاق أيضاً.
فى مثل هذه الحالات, يتم تصنيف هولاء الأبناء على إنهم غير أكفاء و إنهم أقل قيمة من غيرهم ممن قد يكون إبناً لأبوين غير مطلقين (حتى لو كانت هذه العائلة تعانى من العديد من المشاكل العائلية)؛ و يتم الحكم على العائلات المُطلّقة من قِبل مجتمعاتهم و يتم نبذهم لأنهم لم يصلوا للحد الأدنى لما يُعتقد إنه “عائلة سعيدة”.
أنا إبنة لوالدين مُطلقين, و منذ صغرى نادراً ما شعرت أو تم التعامل معى بشكل مختلف حتى وقت قريب, و أيضاً حتى وقت قريب سمعت الكثير و الكثير من القصص عن عائلات مشابهة جُرحت بسبب المجتمع المحيط و أحكامه عليهم. و غالباً إن لم يكن دوماً, يحكم المجتمع على هذه العائلات بناءاً على المُسَلّمات و الإفتراضات الثقافية تاركين ورائهم كلمة الله و وصايا الإنجيل و ما يدعو للسخرية أن هولاء من يحكمون تعسفاً على مثل هذه العائلات يدّعون إنهم, بنبذ هذه النوعية من العائلات, يلتزمون بتعاليم الكتاب المقدس و يحمّلون كلمة الله مسئولية أحكامهم الشخصية و كأن المشكلة ليست هى ضعف إدراكهم الذاتى وقلة تمييزهم لذواتهم المسيحية عن المجتمع الغير مسيحى المحيط بهم أو كذلك عدم وجود المحبة و التعاطف فى قلوبهم. سأشرح بإستفاضة أكثر فيما هو آت.
لقد تربيت فيما اعتبره بيت متعدد الثقافات: أبى مصرى الأصل و أمى هى أرمينية. لقد ولدت أمى فى إيران لأبوين عانا الكثير خلال التطهير العرقى للأرمن فى أوائل القرن العشرين (والدتها كانت أرمينية من روسيا و هربت من استبداد ستالين هناك؛ و والدها كان شاهد عيان على مذابح الأرمن ثم فر من بلدة فان فى أرمينيا (تركيا فى الوقت الحالى) بعد أن فقد أخته المسيحية فى تلك المذابح. أما عن والدى فقد غادر مصر وهو فى أوائل العشرين من عمره و تنقل كثيراً حول العالم إلى أن إستقر فى الولايات المتحدة. غادرت أمى إيران قبل الثورة هناك فى 1980 وهاجرت إلى كاليفورنيا حيث تقابلت مع أبى و تزوجوا و وُلِدت أختى و أنا وتربينا فى لوس أنجلوس بعد ذلك بعدة سنوات.
نحن لم نترعرع فى الكنيسة و بالكاد كان هناك أى إحتكاك شرقى/مصرى فى بيتنا. لم يكن هناك أقمار صناعية تبث قنوات أو موسيقى عربية (لقد كانت الموسيقى الأجنبية فى بيتنا تنحصر فى المطربين الإيطاليين و الفرنسيين المفضلين لدى أبى) و حتى الأكل المصرى لم نعرفه حينذاك. لم يزرنا أى شخص عربى (وهوالأمر الذى كان يثير حنق العائلة) حتى إن والدى أثنى عزيمة شقيقتى عن أن تصبح طبيبة (وهو إحدى المحرمات القبطية أيضاً). كنا نتكلم الإنجليزية مع بعضنا البعض كما أن والدتى كانت تتبادل الحديث مع أختى و معى بالأرمينية. أبى يعرف خمس لغات و أمى تتحدث أربع لغات بطلاقة و أنا و أختى ترعرعنا و نحن نتحدث لغتين الإنجليزية و الأرمينية.
لقد بدأت أرتاد الكنيسة القبطية خلال سن المراهقة و قد كنت الفتاة الغريبة نظراً للخلفية التى تأتى منها عائلتى و لكنى لم أشعر بهذا قط. و أصدقائى الذين عشت معهم (وأنا إلى هذا اليوم فى غاية الإمتنان لهم جعلونى أشعر بالترحاب بينهم كفتاة شابة) لم يعاملونى أبداً بشكل مختلف و العديد من آبائهم كانوا يعتبروننى كإبنتهم. لقد إندمجت سريعاً جداً مع وسط الكنيسة.
مرت السنين و أصبحت أكثر إندماجاً و إحتكاكاً بالثقافة و المجتمع القبطى و كونى فى العشرينات من عمرى و كنت قد عشت فى ثلاث ولايات مختلفة و ثلاث بلدان أخرى مختلفة بمفردى فبالتالى تقابلت مع المزيد من الأشخاص و عرفت عن مواجهاتهم و خبراتهم الشخصية مع الثقافة القبطية, بعضها سلبى خصوصاً عندما يتعلق الموضوع بتوقعات و آمال العائلة و خاصة الأبوين فيما يختص بمستقبل أبنائهم و أيضاً عندما يتعلق الموضوع بأهمية صورة العائلة التى تنتمى إليها فى المجتمع.
و من المثير للإهتمام (و لكنه ليس مفاجئ) أن الثقافة القبطية مشهورة بإهتمامها البالغ بالحظوة و التأثير بمعنى ما إذا كانت العائلة تنتمى لطبقة إجتماعية معينة أم لا, إذا كان الوالدين مطلقين أم لا (لابد للشخص أن يأتى من أصول و عائلة راقية أياً كان معنى راقية), إذا كان هناك عدد معين من الأشخاص الذين ينتمون للعائلة و يعملون فى المجال الطبى أو يشغلون مراكز مرموقة, … إلخ.
لقد واجهت كل ما سبق ذكره من إهتمامات و مخاوف عندما يتعلق الأمر بتقييم العائلات الأخرى, ما عدا التخوف الأكبر ألا و هو العائلات المنكسرة (أو المطلقة) بالرغم من وجود العديد من النقاط السلبية التى لا يعيرونها أى إهتمام كالعديد من العائلات التى مثلاً تَجبر أبنائها على دراسة أو مهنة بعينها, أو العائلات التى تكون فيها علاقة الأباء بالأبناء علاقة ديكتاتورية مجردة, أو آباء يتعاملون مع أولادهم الذكور بشكل مختلف عن بناتهم كالسماح للأولاد بامتيازات أكثر (تفرقة جنسية واضحة), أو زوج و زوجة يعيشان كأغراب و لكن تحت سقف واحد و يُظهرون أنفسهم أمام الناس “كعائلة قبطية سعيدة”.
و نحن غالباً ما نَصِف للمجتمع عائلتنا كعائلة مثالية. أتحدث طبعاً عن النظرية المعروفة التى تقول (لا يجب أن ننشر “غسيلنا القذر” أمام الناس) و لكن بعض العائلات حتى داخلياً لا يتناقشون فى مثل هذه الأمور أياً ما كانت عاطفية أو نفسية أو روحية … بعض العائلات تتمتع بصورة جيدة فى المجتمع فقط لأن الأبوان ليسا مطلقين على الورق و لكن فى الواقع هما مطلقان فى الألفة و الحميمية و الثقة و الإحترام و التسامح … بعض الزيجات بعيدة تماماً عما أراده و رتبه الله للزواج .. حقد, غيرة, فقدان للثقة, عدم إحترام, غضب, عنف, إيذاء, فقدان تام للتواصل وكذلك عدم الصلاة و البُنيان معاً كعائلة.
مثل هذه المشاكل الغير مرئية من مشاكل “الإنكسار” عادة ما تتعلق بالإهتمام بصورة العائلة أمام المجتمع غير مهتمين بمواجهة الواقع. الشخص الذى تريد عائلتك أن تتزوج منه/منها؛ كالقبطى المثالى الشماس و يا حبذا لو كان يمارس مهنة الطب, أو مثلاً فتاة الكنيسة المحترمة التى تدرس الصيدلة أو أى مهنة طبية, كل ذلك لا يغير من واقع الأمر ما إذا كان هذا الشخص يعيش حياة قريبة من الله أم لا, و كذلك لا يجعله شخص أكثر تناسباً و توافقاً لأنه فقط لديه المواصفات الظاهرية المطلوبة لدى الثقافة القبطية, أو كون العائلة معروفة فى وسط الكنيسة أو على علاقة بأحد كبار رجال الإكليروس أو الأساقفة أو كونها من طبقة إجتماعية معينة أو يعملون بمهنة معينة أو يحوزون أملاك كثيرة, كل هذه المواصفات لا تجعلها “عائلة سعيدة”.
و هنا يأتى السؤال, إذاً كيف لنا أن نُقيم العائلات ؟ أو كيف يجب أن تكون نظرتنا إلى العائلات؟ و هل تدخل أيديولوجياتنا و مفاهمينا الثقافية و عاداتنا فى صراع مع واقع و حقيقة كلمة الله ؟
فى أغلب الأحيان, أعتقد أن الإجابة, نعم.
كل ثقافة معينة (كالثقافة القبطية) لديها مفاهميها الخاصة عن الحياة الأسرية و كذلك تمتلك كل أسرة مفاهيمها الخاصة عن الحياة و هذه المفاهيم التى قد تتعارض مع كلمة الله و وصايا الإنجيل هى ليست بطبيعة الحال كما نعتقد “إما أبيض أو أسود” فقط.
إذن تنحصر المشكلة فى نظرتنا نحن للحياة الأسرية.
و أول المشاكل تنبع من عدم رؤيتنا لمشاكلنا العائلية كوسيلة لعلاج مثل هذه الصراعات بين مفاهيمنا و بين كلمة الله. غالباً ما نغلق الأبواب على مشاكلنا العائلية (فى حال ما إعترفنا بوجود مشاكل أصلاً) أو نخفيها بعيداً عن الأعين. هذه المشاكل, التى غالباً ما تكون مشاكل عميقة الجذور, لا تجعلنا نرى أنفسنا كمنكسرين. نعم, منكسرين.
نحن كلنا أناسٌ منكسرون, إنسانية منكسرة, منكسرة بالخطايا و الآثام.
مفاهيمنا العائلية قد تعمى أعيننا عن حقيقة كلمة الله و عن إرادة الله لعائلة قريبة منه. لذلك يجب علينا أن ننظر ملياً و نفكر فيما سبق و تسببت لنا فيه عائلتنا من جراح أو حتى جراح لم تُشفى بعد و مازالت تحدث و تتكرر داخل روابطنا العائلية.
فيما هو آت بعض مقتطفات من أحد أقيم الكتب التى قرأتها (و أعتقد أنه يجب على الجميع أن يقرأه فى ضوء معرفة نعمة و عمل الله فى حياتنا) بعنوان “Emotional Healthy Spirituality” لكاتبه Pete Scazzero.
غالباً ما يتعلق الإنكسار فى كل عائلة بتجنب مواجهة المشاعر (بشكل صحى و روحى). و لكن فى واقع الأمر من الصعب أن يكون الشخص ناضج روحياً و هو ما زال غير ناضج عاطفياً أو شعورياً.
وهذه بعض العلامات التى تخبرنا بأن هناك مشاكل عائلية و لكن نتجنب التعامل معها:
- يتم الضغط على أفراد العائلة لكى ما يفكروا و يشعروا أو يتصرفوا بنفس الطريقة (أو حتى لكى لا يشعروا بمشاعر معينة): “لا تشعر بالحزن …” / “كُف عن الغضب… !”
- عدم الإعتراف بالحدود الشخصية و إقتحامها بشدة و جرح كرامة و إنسانية الآخر و التحقير منه. “أنت بلا فائدة…” , “أنت دائماً ما تفعل ذلك/ لا تفعل…” , “يجب أن تكون على مثل هذا النحو أو مثل فلان….”
- ضعف أو إنعدام التواصل الشعورى بين أفراد العائلة أو إقتصارها على الأوامر: “لن نتحدث بخصوص هذا.. لقد إتخذت قرارى…” , “ليس لدى وقت لهذا.. تعامل مع الأمر بنفسك…”
- التلاعب بالمشاعر و الألفاظ لإستدرار العطف. “كيف تفعل بى هذا… ؟” , “أنت لا تعرف كيف أشعر حيال ذلك…”
- الخصام و إنقطاع التواصل. “لن أسامح أخى/أختى/أبى/أمى أبداً”.
غالباً ما تحمل تصرفاتنا وعلاقاتنا فى حياتنا العادية مع الآخرين مثل هذه المفاهيم و الأقاويل أيا من كان هولاء الآخرين سواء العائلة, الأصدقاء, زملاء العمل .. إلخ. و ما لم نواجه مثل هذا الواقع و نسعى لحل التعارض داخل عائلاتنا و نسعى أيضاً للشفاء من هذه السلوكيات و التصرفات, فستبقى هذه المفاهيم و العادات البغيضة فى عائلاتنا و أولادنا من بعدنا.
من السهل أن نجرح و نحطم بعضنا بعضاً و لكن من الصعب جداً أن نبنى بعضنا بعضاً.
و السؤال الذى يطرح نفسه, كيف نتمكن من حل هذه المشكلة؟
مطالعة أو مصارحة النفس أو ما يُسمى ب(التفكّر الذاتى). أى “العودة للخلف كى نمضى قدماً” كما يصفها Scazzero فى كتابه. نحن نحتاج أن نعود إلى صراعاتنا و جروحنا العائلية القديمة (والحاضرة أيضاً) حتى نستطيع أن نمضى قدماً نحو النعمة و الشفاء التام و نحو علاقات سليمة.
بعض الأسئلة التى يجب أن نسألها لأنفسنا:
- كيف يواسى أبوانا / أشقاؤنا بعضهم بعضاً عندما يختبر أحد أفراد العائلة ضيقةً ما (عندما يبكى أحدهم أو يكون فى حالة ألم أو غضب أو حزن أو خجل أو شعور بالعار) ؟
- هل يتحقق والدانا / أشقاؤنا من مشاعر بعضهم البعض ؟ هل كل منهم يستمع إلى الآخر و يتجاوب معه بحكمة أم يهاجمه بسخط و يثبط من عزيمته ويجرح شعوره لكى يجبره على أن يتصرف أو يفكر بطريقة معينة ؟
- هل يُشعرنا أياً من أعضاء عائلتنا بعدم الأمان و الثقة؟ (عاطفياً أو جسدياً أو نفسياً)؟ و هذا قد ينطبق علينا أيضاً جاعلين باقى أعضاء عائلتنا غير شاعرين بالأمان و الثقة.
- كيفية تعامل عائلتنا مع المشاعر عموماً و كيف أتعامل أنا مع المشاعر و مشاعر الآخرين فى حياتى؟ هل عادةً ما أستخف بمشاعر الآخرين, أو أتجاهل مشاعرى أنا شخصياً, هل أنا أفتقد مهارة التعبير عن مشاعرى؟ هل أخاف من إظهار ضعفى أمام أقرب الناس لى؟
نادراً ما تهتم و تسعى العائلات نحو التمتع بالصحة الشعورية و العاطفية فيما بينهم و بالتالى فهى مسئوليتنا أن نسأل تلك الأسئلة و “نصارح أنفسنا” مصحوباً ذلك بالصلاة و نبدأ فى ترميم و إصلاح هذه العلاقات.
يجب علينا أن نأخذ إنكسارنا نحو الكمال و الشفاء نحو أيدى شافى الكل بذاته, المسيح, الذى إنكسر ليشفينا و الذى جُرح ليعطينا الحياة.
بعض أعراض “الإنكسار” الواضحة تتضمن:
- الخوف
- الشعور بالعار
- الإنعزال
- الغضب
- الحزن
- لوم الآخرين
- السخرية/التعالى
أعراض الصحة السلوكية و الشعورية:
- الثقة
- المواساة و العزاء
- الحرية
- التحقق من مشاعر الآخرين و مشاعرى
- الشعور بأهمية نفسك
- الشعور بقيمة نفسك
هل أياً من مشاعر الإنكسار تلك تظهر فى تعاملى و سلوكى؟ إذا كانت عائلتى لا تهتم بمشاعرى, هل أفعل الشئ نفسه مع أياً من القريبين منى؟ إذا كانت عائلتى تتجنب الصراعات أو المواجهات أو بها علاقات وصلت لطريق مسدود, هل أتصرف بنفس الطريقة فى علاقاتى مع الآخرين؟ كيف تنظر عائلتى لأشياء مثل المال و النجاح و الروحانية و كيف أنظر أنا أيضاً لهذه الأشياء؟ ماذا يتوقع منى الله؟
يتوجب علينا أن نتفهم و نتقبل أن كل منا “منكسر” و لكن الشفاء لا حدود و لا نهاية له. نحن نحتاج أن نتحرك من الإنكسار نحو علاقات صحية و صحيحة و بالأجدر مع عائلتنا.
كيف إذاً؟
أولاً, يجب على الشخص أن يحدد نوع “الإنكسار” الذى أصابه ثم يبدأ بمواجهته مع الآخر محل الخلاف بطريقة صحية. فى كثير من الأحيان ما نكون نحن أنفسنا محل الخلاف نتيجة صراعات و جروح قديمة مع الآخرين و عندها أنصح بأن تبحث عن الشفاء من الداخل و بأن تتحاور مع باقى أعضاء العائلة لتصل إلى نتيجة و حل (و أنصح باللجوء للمشورة المسيحية, الذى هو علم قائم بذاته).
ثانياً, التعبير عن المشاعر بشكل بناء. يجب أن يتم توضيح توقعات الآخرين كل منهم نحو الآخر بشكل صحى و سليم و بمنتهى الشفافية و الصراحة (بدون محاولة قراءة ما بين السطور), يجب أن يكون هناك مناقشات بناءة. يجب على كل عضو من أعضاء العائلة أن يعبر بوضوح تام عن قيمه و مشاعره الشخصية, و عن إهتمامه بإيجاد حل, و عن رؤيته للوصول لمثل هذا الحل. إذا جرحك أحدهم أو قلل من شأنك, يجب أن يتم مواجهة ذلك و تحديده بشكل صحى و بإحترام. إذا كنت تتوقع أن تجد التفهم و التقدير من الآخرين نحو وجهة نظرك, يجب أن تتكلم و تعبر عن ذلك لفظياً.
كل شخص أيضاً مسئول عن أفعاله و كلماته و رؤيته للمشكلة. الإصرار على الإحتفاظ بشعورك لن يساعد على حل الأزمة, كذلك التظاهر و الإدعاء بأنك تشعر بمشاعر مختلفة عما تشعر به فى الواقع لن يؤدى بك إلى علاقة صحية و منفتحة بل فقط يترك الحواجز النفسية مكانها بين الأشخاص.
إذا بدا من الصعب إيجاد حل للمشكلة, أو أن هناك إستخفاف بالمشاعر, أو مازال سوء الفهم يسيطر على الوضع, فهناك حل إيجابى بأن تتقبل الوضع على ما هو عليه من داخلك و أن تسعى بإستمرار للحصول على الشفاء من خلال صلاتك. أما إذا كانت العائلة ترغب فى الوصول لحل فمن الأفضل البحث عن المساعدة و المشورة. فقد يأتى أحدهم من خارج القضية بحل أو فكرة عملية كانت بعيدة عن نظر أصحاب المشكلة نفسهم.
على الرغم من ذلك قد نتصادف طبعاً مع أناس غير راغبين فى التصارح و المواجهة و قبول قيم الآخرين و وجهات نظرهم فى الحياة كحق من حقوق الإنسان و فى هذه الحالة يجب على الشخص أن يتحرر من توقعات ذلك الآخر عنه و أن يتعلم كيف يدير العلاقة بينهما بشكل صحى بقدر الإمكان بدون أى استخدام للقوة (أى بدون الدخول فى مواجهات و صراعات لأن إحتمالية أن يتسبب ذلك فى مزيد من الخلاف أكثر من إحتمالية الوصول لحل وهو ما نريده فى المقام الأول بالطبع).
بالطبع, من السهل التحدث عن ذلك أكثر من العمل به, و هذه العملية تتطلب الكثير من الوقت فى الصلاة, وتتطلب صبراً, و تسامح و إظهار للحب لأننا فى الواقع فى مثل هذه الأوضاع نختبر فعلياً كيف أن “المحبة تتأنى و ترفق…, وتصبر عل كل شئ…” (1كو 13). مثل تلك الوصايا تكون فى أقصى واقعيتها عندما تكون الأصعب فى إتباعها و تنفيذها. هى ليست وصايا نظرية أو مجموعة من الأقوال عن المحبة نُزين بها حوائطنا .. بل يجب علينا أن نتعلم كيف نمارس مثل هذه الوصايا يومياً فى حياتنا العادية و أعتقد أن الله أعطانا الإرادة و الروح التى نستطيع أن نحقق بها ذلك فقط إذا كان لدينا الإرادة ونصلى من أجل ذلك.
أحياناً, وبالذات فى مشاكلنا العائلية, هناك أجزاء من ذاتنا القديمة أو “إنساننا العتيق” يجب أن تموت, أشياء مثل الغضب, الإستياء و الإمتعاض, الشعور بالمرارة, عدم القدرة على التسامح و الغفران, و الإحباط و الكآبة و بالطبع المسيح قادر على إقامة هذه الأجزاء التى يجب أن تموت و أن يبث فيها حياة جديدة. وهذا هو سر الموت اليومى و القيامة اليومية التى يتكلم عنها القديس بولس الرسول. (1كو 31:15, غلا 20:2, غلا 17:6)
رؤيتى للحياة عموماً (المال, العلاقات, النجاح…) تحتاج لإعادة تقييم فى ضوء الإنجيل. هل النجاح قائم على نظرة المجتمع لى أو على الحالة الإجتماعية أو الفخر بذاتى ؟ أم قائم على مسئوليتى بالإهتمام و بالإخلاص فيما أقوم به أياً كان (عمل أو دراسة او خدمة) لكلمة الله فى الكتاب المقدس “وكل ما فعلتم, فاعملوا من القلب, كما للرب…” (كو 23:3)؟ هل الأموال لى وحدى و هل أستعملها بشكل خاطئ أم إنى أراها كنعمة و معونة من الله و استعملها بحكمة؟ هل لدى أى علاقات مريضة أو خاطئة غير صحيحة نتيجة فراغى الداخلى, أو إهتمامى بصورتى, أو آمال و توقعات عائلتى نحوى أم إنى أبنى علاقاتى حسب روح المحبة و إنكار الذات كما لإعلان الله و إرادته لحياتى؟
وبالطبع ليست كل آراء العائلة خاطئة, ولكن ليست بالضرورة أيضاَ أن تكون كلها صحيحة. و كلما عرفنا عائلاتنا أكثر كلما عرفنا أنفسنا أكثر و أكثر وكلما كان لدينا المزيد من الحرية فى صنع قراراتنا و طريقة حياتنا فنستطيع أن نختار بين “نعم أريد الإحتفاظ بهذا”و “لا أريد أن أتمسك بذلك فى حياتى” يجب أن أعيد النظر إلى حياتى كلها فى ضوء كلمة الله.
مصارحة النفس, مصارحة النفس, مصارحة النفس.
يجب أن أؤمن أن المسيح يريد ويقدر أن يشفى كل الجراح, إذا أظهرناها و عرفناها (وما نخفيه لن ينال الشفاء). يجب أن أدرك و أقر بإنى إبن لله و جدير بالشرف و الإحترام و التقدير و الحب.
حتى لو كنت إبن لوالدين مطلقين, أو والداى مازالا متزوجان و لكن عائلتى منكسرة لابد و أن أسعى نحو الشفاء و الصحة السلوكية و الشعورية. مثل هذه الممارسات و المصارحات ضرورية لإيجاد جو عائلى صحى و متكامل و هذا هو ما سيغير تقديرنا و تقييمنا لأنفسنا و طريقة تعاملنا مع الآخرين.
قد تواجه بعض الأوضاع (بالنسبة لأبناء العائلات المطلقة) التى قد تُشعرك بالإقلال من شأنك أو من قيمتك أو تشعر بأن هناك من يدينك و لكن هذه المواقف هى ضد حقيقة كلمة الله فى الإنجيل القائمة على القبول, و التقدير, و الحب, و التعاطف بين الناس بعضها لبعض (مر 30:12, لو27:10). وبالتالى فمن الأفضل أن تذكر هذه المواقف المؤلمة فى صلاة إلى الله و أن تدرك أن نوايا الله دائماً هى القبول و الإحترام و الحب. و أن تسعى للحصول على المساندة و الشفاء من هؤلاء من تعرف إنهم يحترمونك بغض النظر عن خلفيتك العائلية.
لقد رأيت العديد من أبناء العائلات المطلقة و قد تم رفضهم من قِبل عائلات شركائهم الذين يحبونهم لأنه ببساطة والداهم مطلقين. أيضاً لقد رأيت العديد من الأبناء و قد تم رفضهم من قِبل عائلات شركائهم الذين يحبونهم لأنهم ليسوا من طبقة إجتماعية معينة أو مهنة معينة جديرة بإبنتهم/إبنهم. بعض من هولاء الآباء يذهب و يسأل العائلات الأخرى أو الآباء الكهنة عن هذا النوع من الأبناء. و بالتالى فقد تحولت الآية إلى (يبقى الرجل مع أباه و أمه و يلتصق بوالداه) لأنه فى بعض الأحيان يتمسك الأبناء بوجة نظر أبواههم الغير صحيحة عن أناس أو عائلات معينة بناءاً على التوقعات و الآمال المجتمعية بدلاً من المصارحة و التفكير فى شخصياتهم و كينونتهم لأنه -من وجهة نظرهم- من الفشل أن نقيم الناس من خلال حياتهم الروحية ومشاعرهم الصحيحة و هى الطريقة التى ينظر بها الله للناس.
ليست مسئوليتك أن تُسعد الناس من حولك بعائلتك و لكنها مسئوليتك أن تراعى و تهتم بالسلام و وحدانية عائلتك على قدر الإمكان “إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس” (رو 18:12)
نحن لا نختار عائلاتنا. أنا لا أشعر بالخجل من عائلتى (و لا يجب أن أكون) بل أنا ممتنة لكل الدروس و التحديات و الأوقات الجيدة و الجوانب الإيجابية لعائلتى. إذا فكرنا جيداً سنرى مميزات و عيوب عائلاتنا و يجب أن نعرف كيف نفرق بينهم فى ضوء رسالة الله لنا و ألا نخلط ذلك ببعض الجوانب الثقافية السلبية و أن نعرف كيف نتخلص من التصرفات المريضة و العادات العاطفية الغير سليمة (“الإنسان العتيق” كما ذكرت من قبل).
و بعد الشفاء سندرك أن هناك الكثير و الكثير من النعمة و المعرفة و التفهم. سنصبح أكثر تعاطفاً تجاه هولاء من هم منكسرين أيضاً ومن يحتاجون إلى شفاء. و لذلك, فأنا ممتنة و شاكرة لكونى أنتمى لعائلتى الممتزجة المرتدة القبطية الأرمينية لأنه بواسطتهم قد سُمح لى بأن أصبح من أنا عليه اليوم, و أن أدرس ما درست حتى اليوم (و قد انتقلت لبلدين مختلفين, لقد سمحوا لى بأن أتخذ قراراتى بنفسى و وثقوا بإختياراتى حتى المحرمات بالنسبة لفتاة قبطية بأن تدرس بعيداً و تعيش وحدها لدراسة علم اللاهوت).
إذا فكرنا و نظرنا ملياً, سنسعى نحو الشفاء و التصالح مع أنفسنا و مع عائلاتنا و بالتالى سنعيش ما تبقى من حياتنا فى انسجام و تطابق مع كيفية و حقيقة ما يريده الله لنا أن نعيش بطريقة روحية شعورية صحية و سليمة.
لكم صلواتى التى من القلب,
بتوقيع,
الرحّالة القبطية الأرمينية, دونا
“رأيت طرقه و سأشفيه و أقوده, و أرد تعزياتٍ له و لنائحيه” (إشعياء 18:57)